يدلّ خطاب الرئيس على أن لحظة الحقيقة، لحظة اتخاذ القرار الذي طال انتظاره، تقترب، وإذا لم يتم التقاطها بسرعة ستطارد لعنة التاريخ القيادة الفلسطينية إلى الأبد. لقد رفض الرئيس في خطابه العودة إلى المفاوضات كما كانت تجري في السابق، وطالب بوضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال من خلال الأمم المتحدة، وتحدث أيضًا عن حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، محذرًا أنها لن تفلت من العقاب، وهذه أمور كلها في منتهى الأهمية والإيجابية.
وقف المفاوضات الثنائية برعاية أميركية انفرادية أمر كان يجب أن يحدث منذ فترة طويلة، فمنذ مرور شهر أيار من العام 1999، وهو الموعد الذي انتهت فيه الفترة الانتقالية التي حددها "اتفاق أوسلو" للانتهاء من المفاوضات التي لم تنته حتى الآن بالرغم من أنها لم تحقق شيئًا، وأدت إلى تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الاستيطان والحصار والعدوان المستمر والعنصرية؛ حصل ما هو عكس المأمول، لأن السلطة التي نظر إليها الفلسطينيون كخطوة انتقالية مؤقتة تستهدف توفير الظروف لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية تحوّلت إلى سلطة وظيفية دائمة، مهمتها توفير الأمن للاحتلال، فاتضح بشكل قاطع أنه من غير المسموح لها إسرائيليًا أن تكون أكثر من حكم ذاتي تحت الاحتلال، ما جعلها، أي السلطة، تتحول إلى عبء على القضية والشعب، ما يوجب التعامل معها بشكل مختلف، بحيث يتم إعادة النظر في شكلها ووظائفها والتزاماتها لتكون أداة في خدمة البرنامج الوطني وأداة تجسيده منظمة التحرير الفلسطينية.
إن استمرار الرهان على نجاح ما يسمى "عملية السلام" أصبح بعد كل هذا الوقت والحصاد المر ليس مجرد خطأ، وإنما خطيئة لا تغتفر، ما يوجب ضرورة وقف الانخراط في هذه العملية العقيمة واعتماد عملية سياسية جديدة مختلفة جذريًا، وما يؤكد ضرورة وقف السير في هذه العملية فشل قمة "كامب ديفيد" العام 2000، و"مباحثات طابا" العام 2001، وعملية "السور الواقي" العام 2002، ووضع 14 تحفظًا على "خارطة الطريق" بالرغم من انحيازها في الأصل لإسرائيل، إذ تحولت إلى "خارطة طريق" إسرائيلية، إضافة إلى مضاعفة الاستيطان عدة مرات، وخلق أمر واقع احتلالي يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح عمليًا، ورفض كل المحاولات السلمية للتوصل إلى اتفاق عبر المفاوضات الثنائية برعاية أميركية، التي كان آخرها مهمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
في هذا السياق، يمكن أن نضع خطاب الرئيس المهم في الأمم المتحدة في سياق الشروع في البحث عن مقاربة جديدة من دون حسم هذا الأمر كليًا حتى الآن. فهو يلوّح بأنه سيختار مقاربة جديدة من دون الإقدام عليها، على أمل أن يؤدي هذا التهديد إلى إحياء العملية السياسية التي قتلتها إسرائيل.
كان يتوجب الإقدام على هذه الخطوة منذ أربعة عشر عامًا على الأقل، ولكن أن تأتي متأخرًا خير من أن لا تصل أبدًا، شرط أن تكون القناعة بالتغيير الشامل قد توفرت، والإرادة لتطبيق المقاربة الجديدة قد حان وقتها، من دون إضاعة المزيد من الوقت الثمين على المراهنة على إحياء عملية المفاوضات الميتة أصلًا منذ وقت طويل، ولا يغير من هذه الحقيقة أن هناك محاولات تجري من الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لإحيائها بين الفترة والأخرى لذر الرماد في العيون، عبر الإيحاء بأن هناك "عملية سلام" ما زالت جارية، ويمكن أن تصل إلى حل أو اتفاق عاجلًا أم آجلًا، في حين أنها في الحقيقة عملية بلا سلام.
ما يدفع لقول ما سبق أن خطاب الرئيس - على أهميته لغة ومضمونًا - أبقى على الحبل السري مع المفاوضات الثنائية والرهان على الإدارة الأميركية، من خلال مراهنته على احتمال قبول الإدارة الأميركية بما تعتبره خطوات أحاديّة الجانب تضر بالجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق سلام، إضافة إلى عدم تضمينه خطة عملية ملموسة جرى الترويج لبعض ملامحها خلال الأسابيع الماضية، من خلال الحديث عن تضمين "مبادرة الرئيس" جدولًا زمنيًا قصيرًا، والاستعداد للانضمام فورًا لمحكمة الجنايات الدولية ووقف التنسيق الأمني إذا لم تقبل كل من الإدارة الأميركية وإسرائيل ومجلس الأمن المبادرة الفلسطينية. ويرجع سبب التراجع إلى أن هناك مسعى فرنسيًا لإقناع الإدارة الأميركية بعدم استخدام "الفيتو" ضد مشروع القرار الفلسطيني العربي إذا تم تخفيفه.
إن صدور قرار من مجلس الأمن لا يلبي الغرض، وهو الإسراع في إنهاء الاحتلال، ويكتفي بالحديث عن إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة من دون إلزام إسرائيل بإنهاء الاحتلال خلال فترة قصيرة، ومن دون ضمانات لتنفيذه، وفي ظل الضعف والانقسام الفلسطيني والوضع العربي؛ يكون مجرد محاولة لقطع الطريق على اعتماد مقاربة جديدة، وتدشين العودة إلى استئناف المفاوضات الثنائية من دون تغييرات جوهرية على مرجعيتها وأسسها، وقطع الطريق كذلك على تصاعد الحملة التي تقاطع إسرائيل وتطالب بفرض العقوبات عليها ومحاسبتها على الجرائم التي ارتكبتها.
نأمل أن تكون ردة الفعل الأميركية والإسرائيلية على خطاب الرئيس، التي وصلت إلى حد أن حتى زعيم حزب العمل انتقده انتقادات لاذعة، بينما وصفته الناطقة باسم الخارجية الأميركية بأنه مخيب للآمال ومهين واستفزازي؛ قد قطعت الحبل السري مع خيار المفاوضات الثنائية، وجعلت الرئيس يقتنع أننا أمام نقطة تحوّل تاريخية لا ينفع إضاعة المزيد من الوقت من دون إمساكها والعمل على أساسها.
جوهر نقطة التحول أنه لا يمكن تجريب نفس الخطة القديمة بنفس الوسائل والأدوات وانتظار نتائج مغايرة، فلا بد من الجرأة لاعتماد مقاربة جديدة تبدأ بالتوصل إلى وحدة وطنية تؤسس لوجود قيادة واحدة ومؤسسة جامعة واحدة، على أساس شراكة سياسية حقيقية وإستراتيجيات جديدة سياسية وكفاحية تسعى لاستنهاض كل عناصر القوة، بما يكفل تغيير موازيين القوى، إذ تسمح بتحقيق الأهداف والحقوق الفلسطينية.